في حياة أخرى/ محمد ايت حنّا

محمد ايت حنّا
يُغريني الشعراء، بتتبع الزمن ركضاً إلى الوراء.. وراء كلّ شاعرٍ قصص شخوص عاشها وتقمّصها في زمن مضى. كلّ كاتب يفتتح بموته

سيرة بعدية لما ستصير عليه كتاباته، لكن وحدهم الشعراءُ الشّعراء يختمون دورة من سلسلة تقمصات سابقة.. بحيثُ لا يغدو زمنهم ما يتشكّل بعدهم وإنّما ما كان قبلهم.. ماضيهم مستقبلهم.. الشاعر الحق تنصقل عبارته الفريدة بشكل يجعلنا نخمّن أن لا أحد يستطيع أن يسبك هذا القول ما لم يكن قد عاش في زمن سابق وتقمّص صورة ووظيفة تسطّحت في زمنها ثم انصقلت تدريجياً لتبلغ شكل القول الحرّ، حين تصير ناضجة لتخبِر تجربة انفصال الكلمات عن الأشياء.

هكذا قد نخمّن كيف توقفّ الزمن عند الطفل، الذي كانه عبد الله زريقة في زمن مّا، فلم يبرح الجدار الذي اتكأ عليه ذات صباح يشمّ

المنتهى في ليمونة.. ذاك الصبّاح الذي اكتشف فيه الطّفل أن للّيمونة روحاً ليست للبشر، فخبأ السرّ ولم يكشفه لأحد، حتى حان وقت قطافه في شعر لن يفهمه إلا أولئك الذين يقرؤون بحساسية طفل متكئ على جدار يشمّ ليمونة.

ويعلّمنا المصور الفوتوغرافي، الذي كانه كاظم جهاد، أنّ مزيداً من الحزن أو مزيداً من السعادة ضروري في كلّ إعادة تأمل في الصورة/ الذكرى التي لا تحتفي بأصلها وإنما بما ستكون عليه بعد لحظة، حين نعيد التحديق فيها.. الرائحة/ اللّون/ الملمس ما ستكون عليه الأشياء بعد حين، لا ما هي عليه الآن.

أمّا سميح القاسم، ذاك الفصامي، مريض الوسواس القهري الذي اعتقد أن لا أحد يرغبُ فيه، على الرّغم من أنّه أكثر من يحبّه أهل القرية.. فله فضيلة التوحد الذي يقود إلى الناي أو السكين..

ولا مواصلات حيث كان يسكنُ الشيخ، الذي استحال في زمننا شاباً يدعى سيف الرّحبي.. عزلة تامة.. لكنّ ليلَ الحكي يزهرُ، والحكايات تنبثق كالعرق من مسامه.. لا جغرافية أوسع من الخيال.. وللآخرين توارث الحكايات أما هو فتكفيه صور بارقة ربما رآها أسلافه السابقون وما تزال تزوره لينبثق الشيء عن اللاشيء..

أما المزارع، أمل دنقل، فقد أبى، خوفاً أو استحياء أن يرجّ البركة حيثُ انعكست صورة القمر.. للأشياء حرمتها وقدسيتها وشعريتها هناك حيث هي.. أما الأفكار فلا حرمة لها كما لا قدسية للناس على الناس .. الأرض أجلّ ممن يطؤها.

ومن السهل تخمين ما كان عليه سليم بركات من سعادة تحديقٍ في الغيوم أو استلقاءٍ على حشائش يابسة في الصّحراء يتابع، كما يليق بنبيّ أو راعِ أمي، خراف الوقت.. حيثُ يعلّمنا أن التأمل سابق على نشوء المدن، التفكيرُ والتأمل مرض لاحق على ظهور الرّعي، لاحق على تجزية الوقت في عدّ الخراف.

ولم يكن السياب، حارسُ المعبد الوثني، يملك إلا مفتاحاً واحداً لكنّ لكل باب طقساً خاصاً، بحيثُ لا يستجيبُ الباب للمفتاح وإنّما لحركة صاحبه وقوله المتفرّد.

محمد السرغيني، شارح ميتافيزيقا، أراد جرّ ملحمة شعرية إلى الفلسفة، لكنّه أخطأ في تأويل مفردة واحدة فقاد الفلسفة إلى الشعر!!

لا أحد يعلم أي شخص كان عبد الله راجع، لعلّه لم يكن أحداً، لكنّه سلسلة طويلة من الإعدامات، وظيفته الدائمة الوقوف في طابور الإعدام، وجهه إلى الحائط، وكما بطل الأبله لدوستويفسكي تكفيه برهة بين الحياة والموت ليقلب التأملّ في كلّ شيء.. هكذا عاش راجع، سلسلة متوالية من عمليات الإعدام، وهكذا أراده معاصرونا ذاكرة تُعدم وسيرة تُغتال أبدياً....

أما محمد بنطلحة، فتكفيه سعادة متذوّق النبيذ.. ذاك الذي تدرّج في مهن العنب إلى أن انتهى إلى السعادة الأبدية، سعادة التذوق، حيثُ الرّشفة هي الطريق إلى كشف السرّ وامتلاك حق تقرير الموت والحياة.. ما حاجتنا للفردوس، عالم واحد، مادامت رشفة واحدة قادرة على تخليد الفكرة أو إقبارها للأبد؟

وحده نزار قباني، لم يتقمّص روح أسلافه، وإنّما تعتّق كالنبيذ في عروق نبتة مازالت تتردّد أن تزهر... فلا هي تريد أن تكون نرجسة تجرح الذكريات ولا هي تريد أن تكون ياسمينة تسلي ضجر مقموعي الأنظمة.. ربما تكفيه سعادة وردة مجفّفة في مذكرات عاشق خجول.

كلّ ما سبق لأقول فقط أنّ البطالة لم تمنع العاطلَ عن العمل الذي كانه محمود درويش في حياة أخرى، من تمرين حواسه على الإمساك بتفاصيل التافه ورفعه إلى مستوى الإلهي.. يصرّ السوسيولوجيون على أنّ في العمل فقط تحقق الذات ذاتها.. ما حاجة الشاعر إلى ذات واحدة ذات بعد واحد، وحدها البطالة تمحو وجوهنا وتعلّمنا أن قليلا من التثاؤب ضروري لكتابة الشعر....