حساسين البويحياوي: حب و حرية

حساسين البويحياوي: حب و حرية

" بالكلمات اختارَ لِنفْسِه بلاغةَ التّكثيف و عمْق الاختزال في علاقة متميزة بين النّص و الكلمة المضغوطة التي تأخذ مرجعيتها من عالمه الداخلي النفسي".
القاص اسماعيل البويحياوي شاذر يؤمن بضيْق العِبارة ضمانا لاتّساع معناها و تعدده. يَنْظِم قُصيصات كَحَبّات الرّمل، كُلّ قُصيصة حَبّة مكتملة قائمة بذاتها لكِنّها تتوحّد مع بقية القُصيصات التي تنفتح رغم ضيْقها لتكون طوفانا، أو نُدَفا، يعكس عمق الوعْيِ بالكتابة... بالكتابة يحْفِر البويحياوي في عُمْق ذاكرته و مشاهَداتِه و مخزونه المعرفي و: محلومه-مرغوبه إذا استعملنا قاموسه الخاص. يكْتُب كمَن يُصَوّر لحظة مضغوطة تعكِس قوّة الحُضورِ و دِقّة الرؤية/الرؤيا.
اذا كان الفرنسي "فرانسيس بونج" يتحيز للأشياء مُرْتَهِنا الى الاصطدام بالّلغة و تأسيس بلاغة الأشياء عبر الكلمات مُشيّدا علاقة متينة بين النّص و الشّيء مرتكزا إلى العالم الخارجي المحسوس المادي، فالبويحياوي يتحيز لذاته، لمرجعياته الذاتية ... لذا هناك دائما عودة للطفولة عبْر غزْلٍ للكلمات القادرة على رسم براءة تفاصيل صغيرة في الذاكرة، هناك دائما تأمّل دقيق في السيرة الذاتية يرتهن فيها الى اصطدام متعمد بالترسّبات العالقة في القلب و الرّوح و الجَسد....

من ضمن ما قرأت للقاص اسماعيل البويحياوي أربع قصيصات،ثيمتها طائر الحسّون: تحرير/ أخي العصفور/صدْر أمّي/ نافورتا حبّ.

منذ القدم كان الطير يرمز للروح

أربع قصيصات يُنْشِد حَسُّونُها لحْنا يفتَح كُوّة مُطِلّة على ساحة يقْتَعِدُ جَنباتِها ثلّة من الصوفيين و الفلاسفة، رأيتُ بينهم: "ابن سينا" مقطّبَ الجبين يُسَجّل حديث الطّيْر بينما يرسُم الرّوح في قفَص. رأيْتُ "روزْبَهان البَقلي" يراقب روحا واقعة في فخّ الجسد تحدث نفسها و هي محصنة في علبة طينية خلال سفرها من أرضِ الإنسان إلى سماء الإله. رأيتُ "الغزالي" يحكّ صَلْعته متفكرا فيمَا آل اليه سربُ أسئلته بينما "السّهروردي" يترك العنانَ لأصابعهِ تتخلّل لِحيتَه الكثة منهمكا في تحديد ماهية الروح. رأيتُ "ابن العطار" يهُشّ على طيوره و يجمع ريشها تحْتَ جُبّتِه مُنْصِتا لِشكِّها و رغباتها كيْ لا يتفرّق شمْلها و هي في رحلة البحث عن الذّات للخروج من العتمة الى النّور عبْر رحلة تأخذهم من مَحطّة السّؤال الى الطّلب الى العشق الى المعرفة...

رأيتُ البويحياوي يراقب حسونه يرفرف من قُصيصة إلى أخرى باحثا عن السيمورغ ممتلئا بحبّ الحياة حتى في قبوله الموت تحريرا للذات وعودة إلى الهيولى الأولى منبع الصفاء و النقاء.رأيت بين يديه لوحا يتلألأُ صمْغه فقرأتُ القصيصة الأولى:

" تحرير"

(أخرجت عصفوري من قفصه القدري و وضعته في الراحة. استكان استعدادا للحظة الوداع الأبدي. ينظر إلي عصفوري في الحياة.. ينظف جناحي المحجوزين في قفصي الأبدي .. يهبني ريشة تذكارا.. يقبل جبيني.. يجمع جناحيه ويحررني للريح.")




الحليب حياة في الميثولوجيا

تحفل الأساطير بالكثير من القصص حول الرضاعة كقصة "زوس" الذي أرْضَعته ماعزة تسمى "Amalthéeأمالتي"و ابنُه "هيراقليس" الذي رضع من "هيرا" ومن فرط شراهته عضها حتى نهرته ففاض الحليب و منه تكوّن درْبُ الّلبّانة: مجرتنا. في بعض الثقافات يكَوّن الحليب عنصرا رئيسا نبع منه الكون و الأحياء. أمّا الهنود فيعتقدون أن الكوْنَ نشأ من بَحر حليب. و في مصر رُسِمتْ "إيزيس" و هي تُغذي شعب الدّلتا بحليبها. والسّلتيون كما الإغريق يعتبرون الحليب رمزا للحياة. أما البويحياوي فكان ينافس الحسون على التقاط حلمة الحياة فتينع القصيصة الثانية كثيفة كالرائب الرائق يفيض حبا و حياة.



"أخي العصفور"


كانت أمي ترضعني. حط فرخ حسون على صدرها والتقط قطرات حليب من شفتي. قالت إنه مثلي جاء من الجنة. وصرنا أخوين. أنا أقاسمه حليبي وهو يغني لي. وكبر، فصار أسود العينين، بتحانية حمراء، وخد أبيض وطاقية سوداء، و جناحه أصفر.عاد يوما إلى البيت مبللا وباردا. وضعته أمي على صدرها لتدفئه لي. اختفى في الصباح. وقالت لي أمي إنها دفنته في بحر صدرها.كلما اشتقت إليه تضعني على صدرها، فأكلمه، أنصت لغنائه وأفرح لحفيف جناحيه وأكحل عيني بألوانه. واليوم كلما تعبت، أنا العصفور الوحيد الهرم، أطير إلى بيتنا. أنام في حجرها وأتذكر. يحط عصفور. يرضع حليب أمي. تتفتح ألوانه، تدفئه. تدفئني. أنصت إليه يغني بداخلي.

من بين نصوص أربعة كثيفة تقول الكثير، يفاجئنا نصّ"صدر أمي" ، يلتقط فيه القاص لحظات من ذاكرته و ينقلها الى المتلقي، لحظات تُشَكّل صَميم الحياة و سيرورتَها، التقاطات يطلقها فلاشات رسولة الى العالم تشع من حليب الأم و أنفاسها و ارتجاف نبضها ليسائل الحياة عبر ذاكرة طفولته: إنه يقبض كل لحظة تنفتح فيها ذاكرته، فيولدُ النّص شاعريا محتفيا بالحضور في هذا العالم مذ نبَعَ الماء من تحْتِ أقدام إسحاق في أرْض خلاء تستسقي حجارته سماء تراقبُ هلعَ هاجر تسعى بين الصخرتين.

"صدر أمي"


كان الزمن جفافا، وبيت جدي يغلي. حبوتُ إلى أمي: بُوَا. وضعتني في حجرها، فغطست رأسي في صدرها الندي. أشجار معروشات و عصافير صداحة بين جوانحها ونافورات وظلال زلال. شربت. أكلت. لعبت ثم نمت في الصدر الوارف. فتحت عيني. الماء يتدفق من أصابع أمي وقدميها. وخالي يرش ويرش. وكانت أمي تمسح عينيها: شوف أخويِّي طْويَّرْ الجنة مازال حيّ.


الذات المغمومسة في العالم

في قلبه يحفظ القاصّ خوفَه من فقْدِ ما يربطه بهذا العالم، بلُغَة تبدي رغبة جارفة في العودة إلى حُضن الأمّ و حنينا إلى فيْض حنانها. لغة تنضح التباسا بين القاص و القصيصات، إذ نجد السيرة الذاتية تستولي على مساحة كبيرة من مجموع قصيصات الإصدارات الأربعة بدءا من "أشرب وميض الحبر" إلى "ندف الروح".و من ذاك الحوض ارتوَتْ حساسِين البويحياوي.

حين كان يرسُم لوحة، بين ضلوعها ينغمسُ عاشقان في حُبّ يقطُر رومنسية في لامبالاة مستفِزّة لرقيب العادات، أطللتُ من فوْق كتِف القاصّ فقرأتُ:

(نافورتا حب

نافذتان دانيتان، وشابان ساهمان. وتقول ملكين مما لا عين رأت. يترقرق نهر حمرة على الخدين، وتسيل النظرات، وتتعانق. ومن جهة قريبة تنبجس التماعة عذبة، وتتوالى أسراب حساسين وضاءة أنضر من سرور الجنة.تحط. تحتسي من عينين نضّاحتين جاريتين. تتهادى في رحبة الحلم، وتترنم: يا سبحانكما، يا نافورتا الحب...

إذا كان الحسّون حسب "روزبهان البقلي" رمزا لرفقة السوء التي يجب أنْ تتحاشاها الروح. فالقاصّ انحاز للحسّون احتفاء بالحبّ في مجتمع مُدانٌ فيه الحُبّ حتى يثبت تدوينه في عقد زواج. الحب في مجتمع القاصّ عيْب و محظور لكنه مطلوب لاكتشاف الذات و الجسد والآخر، والفتاوي و المواعظ لا تدُعّ المحبين عن الحبّ بل تشدُّهم الى جنته و ترنيماته.

القاصّ في هذا النص يستعمل لغة وسَطاَ بين العاميّة و الفصحى ساعيا في سرده المضغوط الى خلق وقع للنصّ في متلقيه، مقـتنعا بقدرة الّلغة المُكثّفة المقَطّرة في اختراق عقل و قلب القارئ، مقتنعا بأن الومْض أكثر فعالية من السّرد المترهل الفضفاض في شدّ القارئ إلى رسالة السارد و ما تتضمنه من خطابات.

الحرية، الغناء، الحياة، الحب: بكل من هذه الكلمات اختتم القاص ذو النفَس الشعري قصيصاته.

إنه حريص على أن تكون القفْلة نوتة موسيقية محكمة النغْمة، تلامِس الوجدان و تقع في القلب، و من ثمة تحرك الوعي و تخلخله و تزرعه أسئلة محيرة. و هنا تحضرني نماذج من رمزية الطائر في الأدب الفرنسي:

مثلا "ماري دو فرانس" شاعرة من القرن الثاني عشر استخدمت الطائر في الحكاية/القصيدة للتعبير عن بداية و نهاية الحبّ و خيبة الأمل، عاشت ما بين 1160و 1210 لكن قصيصاتها (contes en vers) عرفت انتشارا أكبر في عصر الرومانسية. قصائدها السردية أو سردها الشعري وظفت فيه خرافات نورمدنية. أما النموذج الثاني الذي يتصادى في ذاكرتي مع كتابة البويحياوي فهو "جاك بريفير" من القرن العشرين الذي رمز بالطائر إلى الهروب من رتابة الحياة و أهمية الطبيعة و الرغبة في عصر أكثر بساطة.

يقول "أموس أوز كلاوسنر" الكاتب الّليتواني: (لتعرفوني اقرأوا كتبي)....أقول اقرأوا البويحياوي لتعرفوه...